يذكُرُ ذلك اليوم الذي باغتت فيه السحب بلدته بالأمطار، يوم صافيةٌ سماؤه لا يُتوقع لحرارته إلا أن تزداد، إذا به يُفاجَأ أن السماء بدأت تحتجب والسحب بدأت تجتمع والأمطار تبدأ تنهمر، لم تلبث السماء كثيرًا حتى أغدقت كأنها تفرج عن ذاتها همومًا حلت بها، رعدٌ وبرق وماءٌ، وزحامٌ في الأرجاء أعاقه أن يستقل القطارَ في ميعاده، نزل إلى رصيف المحطة فرأى القطار يجري مسرعًا في طريق كان من قبلُ قد حجز تذكرة استقلاله، لم يرد أن يصدق أن الذي فاته قطاره، سأل الواقفين على الرصيف فأكدوا لديه ما كان مؤكدًا، لا بأس، تلك الحياة لا ريب، قطارٌ تأخر عن ميعادِه ففاته، لا لوم على القطار، اللوم على من لم يتوقع لطريق الحرية زحامًا في ذلك التوقيت، استجمعت ذاكرته أنه قد سمع أحدا حالُه مثل حالِه ذهب ليحجز تذكرةً لقطارٍ تالٍ، فأتى مثل ما أتى، ذهب للشباك وحجز قطارًا تاليًا يتحركُ بعد ساعتين.
وهنا كانت الحيرة أين يقضي ذلك الوقت، أيعودُ بيته ويرجع للمحطة، لكن مروره بشارع أبي قير (طريق الحرية) قيده بالمحطة يقضي فيها ساعتيه ينتظر القطار، انتظر بالفعل إلى أن أتى القطارُ كعادته، وتحركَ كعادته، زاد عن متوسطها نصف ساعةٍ لأمر قيل أنه عطل تم إصلاحُه، لكن المهم، جلس في القطار.
والجلوس في القطار أمرٌ من أمور الدنيا جميل، حقًّا جميل، خروجٌ عنها، وولوج لدنيا الخاطر، جلوسٌ ليس يتخلله وقوفٌ، تمامًا كخاطره الذي يجلسُ إليه، يتجاذبان أطراف الحديث، يتصارعان أحيانًا ويتوافقان أحيانًا أخرى، يحاولان معًا، هو وخاطره، إيجاد حلول لمشكلاته وترتيب أولوياته، ما أجمله خاطره، شمسٌ لم تأفُل قط، وصديق لم يذهب وأحيانًا عدو إنما يعاديه بشرف.