أحد الأسئلة التي كانت تستوقفني منذ زمانٍ طويلٍ هي “كيف يرد المرءُ على الإساءة؟”، إن هذا السؤال قد شهد كثيرًا من التخبط في الحياة، بين رد الإساءة بالإساءة، وبين ردها بإساءةٍ أكبر، وبين ردها بالصمت؛ تارةً كظمًا، وتارةً تجربةً، وتارة دون فهم لأبعاد الموقف إنما تشبثًا بما هو صواب…
والحق أنه بعد خوض سنينَ في محاولة الوصول إلى إجابةٍ لهذا السؤال أجد أن الإجابة المُثلى عليه هي “الصمتُ والعمل”، إن الإساءة ما هي إلا تعبيرٌ عن جروحٍ حاقت بنفس المسيء أثرت فيه تأثيرًا حتى ما عاد مستطيعًا سيطرةً على نفسه، فتعداه الأذى إلى غيره، أذى يتسلسل بين فاقدي السيطرة على نفوسهم أولئك الذين ضلوا في الأرض سُبلهم، إلى أن يصطدمَ الأذى بنفسٍ سويةٍ لإنسانٍ قادر متمكن يستطيع كظم غيظه فيضع حدا لتسلسل الإساءةِ تلك، يضع حدا لاستمرار الأذى فيقف عنده..
إن الرد على ذلك السؤال الصعب يستلزم فهم أن الإساءةَ إنما هي جَرٌّ إلى المنافسة، والحق أن لكل إنسانٍ فلكه الذي يسبح فيه، لا منافسةَ بين امرئ وآخر، إنما لكلٍّ نجاحاته وإخفاقاته، وفهم تلك الحقيقة –أن الإساءة جر إلى المنافسة- يستتبع أن يكون الرد على الإساءة بعدم الانسياق إلى تلك المنافسة والانشغال بالذات “الصمت والعمل”.
لم يكن الصمتُ أبدًا تعبيرًا عن ضعفٍ أو قهرٍ بل هو في كثير من الأحيان أبلغ من كلامٍ كثير يُقال، الصمتُ أولًا لأنه أجدى إلى كبح جماح النفس أن تأتي فعلًا تندم عليه بعد ذلك، بل إن الصمتَ يورث الترقب في نفس المحيطين، ويورث الخوف في نفس المسيء الذي يعلم حقًا بتجاوزه، يترقب هو الآخر رد الفعل، غير أن عدم وجود رد فعل هو في ذاته إعلانٌ أني لن أنساق إلى ما أراد المسيء أن يسوقني إليه.
غير أنه لا يجدر الخلط بين الصمت والكبت، فالإساءةُ دومًا ما تورث طاقةً سلبيةً على المرء أن يتخلص منها، وطرق التخلص من الطاقة السلبية كثيرة: منها بالطبع ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ومنها الرياضة والهواية ومنها الفهم الصحيح لحقيقة الموقف وتقدير مدى لزوم التداخل معه، ومنها الخروج من دائرة رفضٍ اجتماعيٍّ إلى دائرة قبولٍ اجتماعيٍّ أخرى، بمعنى أن الإساءة هي تعبيرٌ عن رفض اجتماعي له ما له من أثر على النفس، وعلاجها يكون بأن يحيط الإنسانُ نفسه بأولئك الذين يحبونه، أولئك الذين يقدرونه حق قدره…
غير أن من أهم القواعد في الحياة، ألا يفرغ المرءُ الطاقة السلبيةَ فيمن أساءَ إليه، ذلك هو الانسياق المحظور بعينه.
أما العمل وهو الشق الآخر للرد على الإساءة فهو تطبيق الانشغال بالنفس، الاهتمام بأن يسير المرءُ في فلكه المعد له خصيصًا، للعمل في ذاته متعةٌ كفيلةٌ بأن تنسي المرء مشاكله في الحياة، فكما قيل: “قيمة المرء ما يُتقن”، فالعمل قيمةُ الإنسان وبه يستشعر المرءُ ذاته وأن له تأثيرًا فيمن حوله، وليس مقصودًا عملٌ بعينه إنما كل العمل الناجح يفي بالغرض، والعمل هذا المحفوف بالنجاح إنما يكون له أشد المردود على المسيء إذ يراك أرفع قدرًا، أساءَ لك فلم تكن مثله مسيئًا، حط من قدره وكنتَ أنت أرفع قدرًا، ذاك الجواب لا ريب: الصمت والعمل.