كثيرةٌ هي الفرص التي تهديها لنا الحياة، كل طلعةِ شمسٍ جديدةٍ هي فرصةٌ جديدة لكي يستمر المرءُ في بناء ذاته، لكي يستمر في عطائه لمن حوله، أو حتى ليغير الطريق الذي سار فيه دهرًا إذا هو وجده مسدودًا، كل يومٍ هو فرصة جديدة، بل إن كل لحظةٍ من لحظات المرء يتفكر فيها في حاله ويحدد أهدافه وأولوياته هي فرصة جديدة، لكن حديثنا في هذا المقال ليس عن تلك النظرة العامة إلى الفرصة، ليس عن الفرصة بمعناها الواسع، وإنما عن الفرصة بمعناها الضيق، تلك التي تلوح للإنسانٍ في حياته مرةً أو مرتين على الأكثر، كيف ينتهزها الإنسان..
والحديث هنا ليسَ عن فرصةٍ بعينها وإنما عن كل فرصةٍ نادرة الحدوث كيف ينتهزها المرء منا؟ كيف يستغلها أفضل استغلال؟ ولعلنا هنا نتناقشُ في أهم الأسباب التي إذا اتبعناها كانت الفرصة أقرب إلينا.
لعل أول الأسباب –في رأيي- التي تساعد على نَيل الفُرص هي الاستعداد المبكر لها، الاستعداد العام في مطلقه، فالفرص إما لحظية وإما تراكمية، وهذا المعنى بالتأكيد يحتاج شيئًا من التفصيل: أما عن الفرص اللحظية فهي كصفقةٍ بسعر مغرٍ كسيارةٍ أو قطعة أرضٍ أو منزلٍ بسعر مغرٍ، وأما التراكمية فهي تلك التي تحتاج إلى اجتماعِ مراحلَ لينالها الإنسان، كفرصة عمل معينة تستلزم أن يكون المرءُ دارسًا لكليةٍ ما ومن بعدها حاصلًا على شهاداتٍ ما تؤهله هو وأقرانه ليتنافسوا على تلك الفرصة، وفي الحالين سواءً كانت الفرصة لحظيةً أو تراكميةً فهي تحتاجُ إلى الاستعداد العام المسبق، كهذا الذي تخرَّجَ في كليته فلم يكتفِ بها وإنما أيَّدها بدراسةِ لغةٍ أجنبية، أو أيدها بدراساتٍ عُليا تخدم هدفه الذي يطمحُ إليه، إن الخريج الذي درس اللغة الأجنبية إبان تخرجه لم يكن في خُلده ما قد تمنحه تلك الدراسة من فرصةٍ بعينها، لكنه يدرسها استعدادًا عامًّا لِما قد يلوحُ في الأفق من فرص، يضع نفسه ضمن قائمة المتنافسينَ عليها، أما أولئك الذين لم يشغلوا بالهم بمثل تلك الدراسة فخارج المنافسة.
على المرء أن يحدد مسبقًا أهدافه ويعرفَ أهم الميزات التنافسية التي تحتاجُها تلك الأهداف ويسعى إلى اكتسابها فلا شك تؤتي أُكُلها يومًا ما…
بل إن ذلك الاستعداد العام المسبق إنما يلقي بظلاله على الروح المستعدة فيجعلها روحًا طموحةً حالِمة، وفي الوقتِ ذاته متوكلة على الله آخذةً بالأسباب، إن ذلك الاستعداد يورث الطمأنينة في نفس المستعد، بل ويوسع آفاقه ويفتحُ له أبوابًا في المستقبل ليست تدورُ في خلده إذ هو يعمل في لحظته.
غير أن من أهم ما على هذا الشخص أن يراعيه هو ألا يقع في براثن الملل، فالاستعداد العام من سلبياته أن الإنسانَ يسيرُ فيه بلا هدفٍ محدد، فإذا طالت فترة الاستعداد، وهي غالبًا ما تطول إذ تمتد بامتداد سنوات الدراسة أو التدريب او غيرهما، شعر الإنسانُ بالملل وفقدان الرغبة في الاستمرار بل ولربما راجع نفسه في أن يكمل الطريق الذي بدأه، فيضيع عليه عمره الذي أمضاهُ في هذا الاستعداد ويضيع عليه مغنم اكتساب تلك المهارة الجديدة أو اللغة الجديدة أو الدراسة الجديدة، والأسوأ تضيع عليه الفرصة التي كان هو قاب قوسين أو أدنى من الوصول إليها… إن هذا الاستعداد يحتاجُ إلى عوامِلَ مساعِدَةٍ تدعمه، كأن تكون الدراسة جماعية بين أفرادٍ يشجع بعضهم الآخر، أو أن تكون تلك الدراسةُ على مراحِل أو مستوياتٍ فيحقق المرءُ إنجازاتٍ متقاربةٍ تشجعه، والأهم من ذلك كله هو ألا يتسرع المرءُ في تحديد مجال ذلك الاستعداد، إنما عليه أن يتأنى في اختياره قبل أن يبدأ مشواره الطويل هذا…
غير أن الإنسانَ إذا هو استعد وكان جاهزًا، وذلك سبب مستمر في الزمن، لربما تلوح له الفرصة لكنها تضيع لسببٍ لحظي هو عدم قدرته على التعامل مع الفرصة التي أتته، ولعل أهم أسباب عدم القدرة على التعامل مع الفرصة هو التوتر، أذكر أني كنت ضمن لجنةٍ للاختيار من بين مرشحين لشغل مكانٍ ما، وتقدمَت إلى المقابلة الشخصية فتاةٌ سألها زميلي سؤالًا لم تستطع إجابته، ومع الأسئلة تبين أنها متوترة، فقطعنا المقابلة دون أن نشعرها وبدأنا في الحديث معها حديثًا آخر بعيدًا عن موضوع تلك المقابلة، حديثًا كان المرادُ منه أن تُظهِرَ هي مواطن قوتها، أن تحكي مواقفَ تفتخر بها، أخذَت المقابلةُ منحى وديًّا، ثم باغتُّها بالسؤال ذاته الذي سألها إياه زميلي في بداية تلك المقابلة، فما كان منها إلا أن أجابت إجابةً نموذجية.
فصِحتُ فيهم أني كنتُ أعرفُ أنها تعرف الإجابة، لكنه التوتر! تضيعُ على أعتابه الفرص!
على المرءِ أن يحاول جاهدًا البُعدَ عن التوتر، لكي ينالَ الفرصةَ هادئًا هانئًا، و”البعد عن التوتر” هي جملةٌ مطاطةٌ عامة واسعة المعنى، لكن إذا أردنا أن نجعلها أكثر تحديدًا لربما قلنا أن البعد عن التوتر يكون بالبعد عن الأشخاص المُوَتِّرين، وهُم كُثُرٌ في الحياة، البعد عن إلقاءِ السمع إلى أولئك المتوترين الذين يتعدى توترهم الداخلي إلى خارجهم فيبسطون على مَن حولَهُم غَياماتٍ من خوف ترتجف بها قلوبهم حتى تنالَ منهم ومن فرصهم، يمنحون أنفسهم ومن حولهم قسطًا كبيرًا من الفرص الضائعة، سباقون إلى الخسارة يخسرون قبل فوات الفرصة بتوترهم وخوفهم، ثم يخسرون الفرصة ذاتها التي كانوا ينالونها لو أنهم تعاملوا معها تعاملًا صحيحًا.
عن أقوامٍ حالُهم مثل حالِهم يقول إيليا أبو ماضي:
“إن شر الجناةِ في الأرضِ نفسٌ *** تتوقى قبل الرحيل الرحيلا”
ولعل من أسبابِ البعد عن التوتر كذلك هو التدرب على عدم التوتر، البحث عن مواطن التوتر ومعرفتها واستغلالها في أن يتدرب المرء على أن يمسك زمامَ نفسه، كانت وِرَش عمل الذكاء العاطفي للدكتورة رحاب أردش أحد أهم ورش العمل التي خُضتها في حياتي على الإطلاق، وفيها أشارَت إلى مصطلح لازال رنَّانًا في أذني له وَقْعُهُ في نفسي كلما تذكرتُه رغم مرور سنتين على تلك الورشة، هو مصطلح “الثواني الثمينة”، وهو مصطلحٌ مِن تسميتها، تَقصد به تلك الثواني التي تكون بين الفعل ورد الفعل، تلك الثواني التي تتلوا الحدث فيفكر خلالها المرءُ قبل اتخاذ قراره، كأن يسُبَّ إنسانٌ شخصًا آخر، فيتأنى ذلك الشخص ويفكر هل يرد أم لا، أو كأن يخطِئ شخصٌ لك عليه سُلطة، فتفكر في رد فعلك، ثم ترد أو لا ترد، تلك الثواني الثمينة من الوعي والإدراك والتفكير، تلك الثواني هي التي يتدرب المرءُ فيها، وتلك الثواني هي التي ترتقي بالنفس البشرية، هي تلك الثواني التي يُعمَلُ فيها العقل الذي كرَّمَ الله به بني آدم، والذي هو مناط تكليفنا ومناط حسابنا، إعمالُه هذا هو الذي به يختارُ المرءُ خياراته في حياته، ففي إعمالِه نجاته، وفي إغفاله هلاكه…
إن تلك الثواني الثمينة هي تلك التي يستطيع المرءُ فيها أن يتدرب على إمساك زمامِ أموره، هي تلك التي يستطيع المرءُ فيها أن يتدرب على عدم التوتر، لربما تظهر تلك اللحظاتُ في الحياة وكأنها اللحظات الأكثر توترًا بل والأكثر سوءًا في يومنا، لكنها في حقيقتها فرصةٌ لابد أن تُغتَنَم، فرصةٌ ليرتقي الإنسانُ في مدارج ذاته، فرصةٌ للنفسِ أن تتزكى، وفرصةٌ للروح أن تقترب من بارئها فتعلو فترى الصورةَ اكثرَ شمولًا، ترى الصورةَ من عَلٍ، وفرصةٌ للقلب أن يترفع عن أن يتعلق بسفاسف الأمور، وفرصةٌ للعقل أن يتفكرَ تارةً وأن يتدربَ تارةً أخرى، هي فرصةٌ للإنسانِ -في مجمله- أن يترقى.
ولعل تلك الحوادث اليومية هي أحد أهم مَوَاطن الفرص في معناها العام الذي أشرتُ إليه في مطلع هذا المقال، هي من بين تلك الفرص التي تتجدد بتجدد طلوع الشمس، ومن خلالها يستطيعُ الإنسانُ أن يتدرب على ألا يتوتر، جنبًا إلى جنب مع سيرِه المستمر وسعيه في سبيل تسليح نفسه بالاستعداد العام المسبق، لا شك أن الإنسانَ إذا ما تسلح بالسعي المستمر، والهدوء إذا حانت الفرصة، لا شك أنه ينالها بسهولة، أما إذا هي فاتته بعد سعيه واستعداده وتؤدته، فلا شك أنها لم تكن له من البداية.